الثلاثاء، 19 يوليو 2016

من أديسون إلى الخوئي ... في ذكرى ولادة إمام المخترعين !



من أديسون إلى الخوئي ... في ذكرى ولادة إمام المخترعين !



تمر علينا هذه الأيام ذكرى ولادة العالم الجليل ، إمام المخترعين ، توماس بن أديسون الميلاني الأوهايوي ، المهندس و رجل الأعمال و المخترع الكبير ، صاحب التصانيف الشهيرة ، و البحوث الكبيرة ، و الإختراعات الكثيرة ، في علوم الكهرباء و الصوتيات ، و الكيمياء و الميكانيك و الضوئيات ، التي تركت بصماتها على حياة المليارات. هو من أوائل من ابتكر مبدأ الإنتاج الجماعي Mass Production و العمل بروح الفريق الواحد Team-work في مجال البحوث و الإختراعات ، و لذلك يعزى إليه الفضل في صناعة مختبرات البحوث.

كان توماس غزير الإنتاج ، فقد سجلت بإسمه 1093 براءة اختراع في الولايات المتحدة ، بالإضافة إلى بريطانيا و فرنسا و ألمانيا ، و أكثر اختراعاته شهرة هو عمله في مجال صناعة المصابيح الضوئية بصورة اقتصادية ، و جهاز التسجيل الصوتي (فونوغراف) و صناعة الأفلام السينمائية ، و ساهمت اختراعاته في ولادة ثورة البث و الإتصالات. 
لقد كان إبداع أديسون في هذه المجالات هو نتيجة متقدمة لعمله كعامل تيليغراف ، حيث عمل على صناعة مولد و موزع للطاقة الكهربائية إلى البيوت و المحلات و المصانع الذي هو أساس التطور و البناء الصناعي في العصر الحديث ، حيث وضع أديسون أول محطاته لتوليد الطاقة في شارع اللؤلؤة (Pearl) في منهاتن نيويوك.

النشئة و الطفولة


ولد أبو الثيودور ، توماس بن أديسون ، الميلاوي ، الأوهايوي ، في يوم 11 شباط فبراير من عام 1847م في مدينة "ميلان" في ولاية "أوهايو" الأميركية، و كان أصغر أخوته الستة. ينحدر أبوه – صمويل بن أديسون - من أصول كندية كان قد هاجر منها مع جده إبان الحرب الأهلية. 
كصبي صغير ، لم يلبث أديسون في مدرسته أكثر من ثلاثة أشهر، حيث كان فائق الحركة ، كثير السؤال و البحث ، قليل الإنصات حتى وصفه معلمه بـ "المشوش" وصعب التعليم ، مما دفع بأمه إلى أن تسحبه من المدرسة و تتولى هي تعليمه في البيت. كان أديسون يقول إن أمه هي من صنعته و آمنت بقابلياته و كانت ملهمته للعمل و الإنتاج ، ففي عمر 11 عاماً أظهر أديسون نهماً للمعارف و كان لا يمل من المطالعة الواسعة لمختلف أنواع المعرفة حتى طوّر طريقته للتعليم الذاتي بدون اشراف أحد ، و هو ما أفاء عليه في حياته فيما بعد.
تعرض أديسون في صباه إلى حادثة أو مرض أثر على قابلياته السمعية ، و انتقلت عائلته للعيش في ميشيغان عام 1854 لأسباب اقتصادية ، حيث عمل أديسون كبائع للحلوى و الجرائد في القطارات ، و كان أحيانا يبيع الخضراوات ليعين معاشه ، و كان في هذه الأثناء يدرس التحليل الكيفي qualitative analysis و يشتغل بالتجارب الكيميائية في أحد القطارات القابعة في المحطة إلى أن تعرضت احدى تجاربه لحادثة منعوه بعدها من الإستمرار في تجاربه.

عقلية رجل الإعمال

في سن 12 ، أقنع أديسون والديه بأن يسمحا له بالعمل لبيع الجرائد على المسافرين في محطة قطارات "جراند ترانك" ، و حصل على تصريح يخوله بأن يكون الموزع الوحيد للجرائد هناك. و بمعاونة أربعة مساعدين ، أسس و طبع و ووزع جريدة "جراند تراك هيرالد" مع باقي الجرائد التي كان يبيعها. كانت هذه بداية أديسون لسلسلة من مشاريع الأعمال التي ميزت حياته ، و فيها اكتشف قدراته و موهبته كرجل أعمال ، هذه الموهبة التي قادته لأن يؤسس أربعة عشر شركة ، من ضمنها شركة جينيرال الكترك General Electric التي لا تزال واحدة من كبرى الشركات العامة المساهمة في العالم.

عامل بدالة التلغراف

أصبح أديسون عاملا لبدالة تلغراف بعد أن أنقذ طفلاً صغيرا عمره 3 سنوات من أن يسحقه قطار فالت ، فعينه والد الطفل عاملاً في تيلغراف المحطة امتناناً له. قضى أديسون قرابة سبعة أعوام يعمل في هذا المجال و يتنقل في مدن الوسط كمحترف لآلة التلغراف. في أوقات فراغه كان أديسون يطالع باستمرار و كان يدرس و يتفحص جهاز التلغراف حتى أصبح ملماً بعلوم الكهرباء. وفي عام 1866 و حينما بلغ من العمر 19 عاماً ، انتقل أديسون إلى ولاية كنتاكي كعامل تيليغراف في دائرة الأخبار التابعة للأسوشيتد برس Associated Press ، و لكنه بعد عامين عاد إلى بيته ليجد أن أمه قد أصيبت بمرض عقلي و أبيه عاطل عن العمل ، ووجد عائلته في فقر مدقع ، مما اضطره للبحث عن عمل يعيل به نفسه و عائلته ، فارتحل إلى مدينة بوسطن التي كانت مركز العلوم و التكنلوجيا في ذلك الوقت حيث عمل في شركو ويسترن يونين Western --union--. طلب أديسون أن يعمل بالشفت الليلي ليتيح له أن يقوم بهواياته في المطالعة و التجارب الكيميائية ، لكن إحدى هذه التجارب كلفته مهنته حيث سقط منه حامض الكبريتيك على الأرض الخشبية فاخترقها و وصل إلى طاولة مديره ، فتم فصله في اليوم التالي.
تلقى أديسون بعد ذلك مساعدة من أحد رفاقه المخترعين (فرانكلين ليونارد) حيث سمح له بأن يعيش و يعمل في قبو بيته في نيو جيرسي ، حيث بدأ يعمل على أولى اختراعاته في مجال التلغراف و آلة إحصاء الإنتخاب الميكانيكة.

المخترع الشاب

في عام 1869م انتقل أديسون إلى نيويورك حيث عمل على أول اختراع له ، و هو تطويره لعداد أسهم بورصة أوتوماتيكي بحيث يجمع فيع أسهم عدة شركان في تحويل مالي واحد. هذه الآلة أثارت اعجاب شركة "يونيفيرسال ستوك برنتر" بحيث دفعت له مبلغ يوازي 40 ألف دولار مقابل هذه الآلة. كان عمر أديسون حينها 22 عاماً ، و بعد أن تحسس هذا النجاج ترك أديسون عمله في شركة التليغراف و تفرغ للبحث و التطوير.
بدأ أديسون احترافه كمخترع في مدينة نيوجيرسي مع أجهزة التلغراف و العدادات الأوتوماتيكية ، لكن اختراعه الذي بدأ شهرته به هو جهاز تسجيل و اعادة الصوت : الفونوغراف ، الذي أذهل الكثيرين في وقته و بدا كأنه آلة سحرية تردد ما يقال لها بنفس الصوت. و بالرغم من محدودية أداء الآلة الأولى (ورق الألمنيوم ملفوف على اسطوانة محززة) لكنها أكسبته شهرة واسعة ، حتى أن جوزيف هنري - رئيس أكاديمية العلوم القومية – وصف أديسون بأنه أشهر عبقري مخترع في تأريخ البلاد .. أو ربما العالم. في أبريل من عام 1878 سافر أديسون إلى واشنطن لاستعراض آلته الجديدة أمام كل من أكاديمية العلماء القومية و الكونغرس الأميركي و البرلمانيين و الرئيس الأمريكي هايس. و بالرغم من اختراع أديسون للفونوغراف ، لكنه لم يعمل كثيراً على تطويره إلى أن تمكن أكسندر غراهام بيل و جستر بيل و جارلز تينتر من تطوير و انتاج جهاز شبيه بالفونوغراف عام 1880 يعمل بالأسطوانات المصنوعة من الورق المقوى و المطلي بالشمع.
مختبر البحوث و موجة الإختراعات

أكبر ابتكارات أديسون العملية كانت إنشاؤه لأول مختبر بحوث صناعي Industrial Research Lab الذي بناه عام 1870 في بلدة مينلو بارك في نيوجيرسي. كان هدف المختبر هو البحث و التطوير للأغراض الصناعية ، حيث تم انشاؤه و تمويله عندما باع أديسون أول جهاز له (التليغراف الرباعي) بمبلغ 100 آلاف دولار لشركة "جاي كَولد" مع نسبة من الأسهم و الضمانات.
بحلول عام 1870 أصبح أديسون مشهوراً بأنه مخترع من الطراز الأول ، و ساعده ذلك على توسيع عمل مختبره حيث وظف مجموعة من أمهر المهندسين فيه و كان مسؤولاً عن توجيه بحوثهم و ابتكاراتهم بما يتماشى مع العقود التي كان يبرمها مع الشركات المختلفة من أجل تحديث و تطوير وسائل العمل و الإنتاج. من ضمن الذين عملوا مع أديسون كان المهندس و الأكاديمي الشهير نيقولا تيسلا ، قبل أن تتحول علاقتهم إلى منافسة حول فعالية استخدام التيار الثابت DC الذي يفضله أديسون أمام التيار المتناوب الذي برع فيه تيسلا و الذي تولته فيما بعد شركة ويستنغهاوس.

عندما بدأت صناعة السيارات بالنهوض ، عمل أديسون على تطوير بطارية يمكنها تشغيل السيارة الكهربائية قبل أن تستحوذ السيارات التي تعمل بالبترول على السوق ، لكنه صمم بطارية التشغيل الآلي Self-Starter لعملاق صناعة السيارات هنري فورد.


أبرز اختراعات أديسون

- الفونوغراف

يعتبر الفونوغراف أول اختراعات أديسون و أحبها اليه ، و هو جهاز تسجيل و إعادة الصوت. كان الجهاز يتكون من لاقط صوتي يحول ذبذبات الصوت إلى حركة ميكانيكة تحرك أبرة صغيرة تقوم بتخديش صفائح المنيوم رقيقة ملفوفة على اسطوانة أو قرص. إن أول رسالة صوتية مسجلة على الفونوغراف كانت بصوت أديسون و هو يقول "ماري كان لديها مصباح صغير" ، هذا التسجيل لا يزال محفوظا و يمكن سماعه في قناة اليوتيوب.

- ألمصباح الضوئي

أشهر اختراعات أديسون هو المصباح الضوئي في عام 1880، و لكن على عكس الإعتقاد الشائع ، فإن أديسون لم يخترع المصباح الضوئي لأنه كان موجوداً من قبل ذلك بعدة سنوات ، لكن مشكلة المصباح الكهربائي في ذلك الوقت أنه لم يكن معولاً عليه ، و كان غاليا ، كثير العطل. و قد سبق أديسون أكثر من عشرين مخترعاً محاولاً تطوير المصباح حتى أيس الجميع من جدواه قبل أن يدخل أديسون حلبة المنافسة.
الذي أبدع فيه أديسون هو أنه أفرغ المصباح من الهواء ، و وجد المعدن الملائم للتوهج و بفولتية قليلة تمكن من صناعة مصباح يستمر لعدة ساعات دون أن يحترق أو يتعطل ، مما جعله قابل للإنتاج الصناعي و بأرخص الأثمان.


- الصور المتحركة

بدأ أديسون عمله في الصور المتحركة عام 1888-1889 ، و كان أول جهاز له عبارة عن تطويع جهاز الفونوغراف مع تركيب حلزوني للصور الفوتوغرافية بحجم 0.16 انج موضوع على اسطوانة ينظر اليها بالناظور ، لكنها لم تكن عملية أو واضحة. لكن بالتعاون مع "دبليو كي إل دكسن" طور أديسون شريط الفيلم السينمائي معتمداً على شرائح السليلويد بحجم 35 ملم التي طورها جورج إيستمان ، و صمم الشريط بحيث يكون مثقبا ًمن الجانبين ليسهل تحريكه بواطة عجلات مسننة ، و كانت هذه بدايات السينما المتحركة.
 



نهاية المسيرة

توفي أديسون عليه السلام و رضي الله عنه و أرضاه و قدّس روحه الزكية الطاهرة عن عمر ناهز الرابعة و الثمانين ، و ذلك يوم الأحد لثمانية عشرة ليلة خلت من شهر أوكتوبر المعظم من سنة 1931م بعد أن عانى من مضاعفات مرض السكري ، و دفن في الفناء الخلفي لبيته الصغير في بقيع نيوجيرسي ، فإنا لله و إنا إليه راجعون ..!


أديسونات المنطقة العربية

بعد مائة سنة تقريباً من ولادة أديسون قرر الملك عبد العزيز بن سعود ادخال خدمة التليغراف اللاسلكي إلى المملكة ، فتصدى له علماء الإخوان الوهابية و طالبوه بتدمير محطات التليغراف لأنها مساكن الجان و لا يجوز الإستعانة بالجان ، نكاية بالكافر النجس أديسون اللعين! 

و نقل لي أحد مقلدي المرجع السبزواري أنه سئل يوماً: مولانا ، من أفضل ، توماس أديسون أم السيد الخوئي؟ فأجاب المرجع: "السيد الخوئي طبعا! لأنه كان مسلماً يرجوا وجه الله في أعماله ، أما أديسون فكان كافراً لا يعرف الله و فعل ما فعل طلباً للشهرة و المال" (على عكس المراجع الكرام الذي يتعففون من المال) . يعني باختصار السيد الخوئي ستفتح له أبواب الجنة و أديسون سيلقى مشوياً في النار.
صدق سماحته في هذا الوصف ، و نحن نؤكد على ذلك بأن نورد إحدى فتاوى الإمام المقدس أبو القاسم الخوئي (قدس) التي أفاد البشرية فيها من مأزق كان سيلقي بها إلى التهلكة لولا أن فتح الله عليه و زاده بسطة في العلم و الفهم ، حيث قال لافض فوه في المسألة 11 في كتابه "المستند في شرح العروة الوثقى" ما يلي موضحاً للأخوة المؤمنين مسألة طالما أرهقت ضمائرهم و أقلقت منامهم و حيّرت ألبابهم واقشعرت لها جلودهم و هزلت لها أبدانهم ، أؤلئك الذين غضوا أباصرهم عما حرّم الله عليهم ، و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ، حتى براهم الخوف بري القداح ، فقال مفرجاً عنهم و مطمئناً لقلوبهم الطاهرة المطهرة : "إذا أدخل الرجل بالخنثى قُبُلا لم يبطل صومه ولا صومها – الحمد لله ، الدين يُسُر – ، وكذا لو دخل الخنثى بالاُنثى ولو دُبُراً ، أمّا لو وطئ الخنثى دُبُراً بطل صومهما ، ولو دخل الرجل بالخنثى ودخلت الخنثى بالاُنثى بطل صوم الخنثى دونهما – هنا للأسف الشديد الخنثى يبطل صومها ، لكن يبقى صوم الرجل و خشوعه صحيحا و صوم الأنثى صحيحا لوجه الله تعالى مع هذه المضاجعة الثلاثية الأبعاد ، انظر سماحة الإسلام ، ثم يكمل مولانا - ولو وطئت كلٌّ من الخنثيين الاُخرى لم يبطل صومهما" انتهى ، لله درك يا أبا القاسم ما أفقهك و أعلمك بهموم الأمة! جزاك الله عن كل خنثى ألف مثلها يوم يقوم الأشهاد من الذكور و الإناث و الخناث! انظر كم أنقذت هذه الفتوى من الأرواح الهائمة و الأنفس الحالمة ، التي كان بعضها يفكر في الإنتحار فرقاً من معصية الإفطار ، فاعتبروا يا أولي الأبصار!

ستظل البشرية مدينة لك يا أمير المخترعين يا أبا ثيودور ، و سيبقى اسمك مرتبطاً بالمصابيح التي تنير لظلام ، في الوقت الذي ارتبطت فيه اسماء غيرك من المخترعين بأبوال البعير و رضاع الكبير و مفاخذة الصغير و مجامعة الخناث و البهائم و الحمير !

أوساخ النّاس !

أوساخ النّاس !


في عام مضى ، كنت أجلس بانتظار صلاة عيد الفطر في أحد "المراكز الإسلامية" مصطحبا معي صديق لي نيوزيلندي كان حديث عهد بالإسلام ولا يزال طريا في خطاه. و نحن كذلك في انتظار الصلاة و في غمرة حركة الناس يمنة و يسرة استعدادا لمراسم الصلاة ، إذ جاء شابان فوضعا صندوقين أمام الصف الأول لجمع صدقات الفطر قبل أن تبدأ المراسم. نظرت إلى الصندوقين فرأيت أنه كُتب على أحد الصندوقين باللغة الإنكليزية "For Sayyed" و على الآخر " For non Sayyed" ، أي صندوق صدقات "السادة" و صندوق صدقات "غيرالسادة" ! و الحكمة من الصندوقين هي حتى لا تختلط فلوس "السادة" مع فلوس البشر العاديين ... من غير "السادة"!

نظرت بامتعاض إلى هذه الإهانة في مصباح العيد ، و ندمت أني جئت لهذا المكان السخيف و جلبت معي صاحبي الذي كنت حريصاً على سمعة الإسلام أمام ناظريه البريئتين، فتذكرت أن للصائم دعوة مستجابة في مصباح العيد ، فبسطت كفيَّ داعيا و أغمضت عيني خاشعاً و طلبت بقلب راجٍ و لسان ضارعٍ و سألت ألله بحق هذا اليوم الذي "جعله للمسلمين عيدا ، و لمحمد صلى االله عليه و آله ذخرا و شرفاً و كرامة و مزيدا" أن يصرف نظر صاحبي عن ملاحظة هذين الصندوقين الأسودين - لعنهما الله - مردداً الآية المشهورة في هذه المناسبات ((و جعلنا من بين أيديهم سداً و من خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)) كي لا يلتفت صاحبي إلى هذه الفضيحة ، حرصا مني على سمعة الإسلام و المسلمين ، و ما أن انتهيت من دعائي و مسحت وجهي تبركاً – بعد الصلاة على محمد و آل محمد - حتى مال إلي صاحبي هامساً بسؤاله البريء: ماذا تعني عبارة "للسادة" و "لغير السادة" على هذين الصندوقين ؟؟

احترت كيف أواري هذه السؤءة الفقهية و بأي ستار أداري هذه العورة الشرعية؟ و كيف أبرر لصاحبي سفاهة هذا التشريع الذي يعتقد به الملايين من السذج ؟ فصاحبي هذا بريء ، طيب القلب ، و هو علاوة على ذلك و بحسب ثقافته التي نشأ عليها لا يفهم ماذا يعني أن يُقسَم الناسُ حسب انتمائهم القبلي إلى صنفين ، أحدهما مُحَسّن شبه مقدّس و الآخر تصنيع عادي . هو لا يفهم شيء اسمه تفضيل "بني هاشم" أو "العترة الطاهرة" و هو تعبير استفزازي يلمز بقية أعراض الناس بأنها غير مطهرة ! صاحبي هذا غافل ، لا يعتقد بشيء إسمه "الأشراف من بني هاشم" و لا "السادة من أهل البيت" و لا يتصور وجود طبقة نبيلة و أخرى سحيقة في ديانة كان شعارها الناس سواسية كأسنان المشط.

لم أرد أن أوقظه من أحلامه أو أنبهه إلى أوهامه ، حيث كنت يومها حريصاً على أن أداري عنه سوءات الفقه و أصرف عنه بلاوي التشريع ، فقلت له بابتسامة تكاد تخفي سأمي و استيائي: هذه قصة طويلة خير لك أن لا تشغل دماغك بها.
هذا دين يلعب النسب دوراً محورياً في صياغة فقهه الإقتصادي و السياسي و الإجتماعي على طريقة القبائل العربية، و هذه التفرقة العنصرية و تقسيم الناس القبلي حسب قرابتهم من فروع قبيلة سكنت الحجاز قبل 1400 عام اسمها "بني هاشم" هي مما توافرت عليه الأحاديث و الروايات التي اجتمعت - أو قل تمالئت - على "تحريم" الصدقة على آل محمد (حسب التقرير الشيعي) أو على بني هاشم (حسب التقرير السني) ، و السبب الذي أجمعوا عليه هو أن الصدقة هي ... ركّز معي قليلاً و لا تتقيأ فأنت في العالم السفلي الآن ... الصدقة هي "أوساخ الناس!" فلا تليق بـ "الطاهرين المطهرين" من بني هاشم!

أوساخ الناس ؟! تقديم يد العون لتعين بها الفقير المحتاج يسمونها اوساخ الناس؟ فمن أين جاؤوا بأوساخ الناس؟

جاء بها حديث في "صحيح مسلم" و "مسند أحمد" ما لفظه (إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس ، لا تحل لمحمد و لا لآل محمد)
و في مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال ((أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه ، فقال رسول الله : كخ كخ أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ؟)) 
كخ كخ للتمرة؟!

تعلمنا و نحن صغاراً أننا إذا لقينا كسرة خبز على الأرض أن نحملها و نقبّلها و نضعها في مكان محترم لأنها ((نعمة الله)) ، و لكن النبي في هذا الحديث يقول للتمرة "كخ كخ" !

يشترك الفقه الشيعي مع الفقه السني في تحريم الصدقة على بني هاشم ، الفرق بينهما هو في نطاق التحريم و مدى تفعيله ، فالفقه الشيعي يحرمها على سلالة عائلة واحدة من بني هاشم و بصورة فاعلة حتى تقوم الساعة (لا أدري بعد كم ترليون سنة) ، أما الفقه السني فيحرمها على جميع بني هاشم ، مع وقف التنفيذ!

هل يعني هذا أن معنى الآية ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها)) يقصد بها خذ منهم أوساخهم؟ و هل الآية الأخرى التي تقول ((لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون)) يقصد بها حتى تنفقوا مما تتوسخون منه ؟
و بناء عليه ، لا مانع أن تقول ذلك للفقير الذي تعطيه من صدقاتك "خذ إليك .. هذه أوساخي ، أتقرب بها إلى الله !" و على هذا الفقير أن يتقبل أوساخك و هو رحب الصدر! و إذا شاءت المشيئة و دارت بك الدنيا دائرتها و احتجت إلى المعونة ، فلا بأس أن تسأل بعض الميسورين أن يعطوك بعض أوساخهم تتقوى بها و تأكل منها! و هكذا المجتمع المسلم المثالي ، يؤازر الناس الناس بعضهم البعض ... بأوساخهم!
هل من الإنسانية في شيء أن تأتي بالصدقة إلى الفقير المحتاج لتقول له : هاك بعضاً من أوساخ الناس تقوى بها أنت و عيالك؟ 

لكن مالسبب الذي دفع الفقهاء لهذا التفرقة العنصرية بين بني آدم؟ و هل هناك من ميزة خاصة لبني هاشم تجعلهم يتأذون من صدقات الناس ؟ إنها في حقيقتها تمهيد لسرقة و غنيمة شرعية أعظم بكثير من الصدقات التي تخضع لمزاج المتصدق و ما تجود به يمينه ، أنها تمهيد لأكبر و أطول عملية نصب و احتيال في تأريخ الأديان المتمثلة في الفرض الديني لضريبة الخمس التي تؤخذ من جهد المضحوك عليهم و جهد عيالهم و تعطى لهذا الـ "السيد" المنحدر من سلالة أبي طالب، و التي يبدو أنها ليست من الأوساخ التي يتاذى منها "السيد" الهاشمي! كيف تكون الصدقة التي يدفعها الإنسان عن طيب خاطر هي أوساخ لا تليق بمقام السيد الهاشمي و لايكون الخمس الذي يؤخذ بقانون شبه عنوة – تحت تهديد الآيديولوجيا المضللة – من ضمن أوساخ الناس؟
ثم أن "السادة" الذي يرتعون عالة في البلاد الغربية يقبضون مرتبات الرعاية الإجتماعية من الدولة ، و هي في حقيقتها صدقات/زكاة/ضريبة الدخل تجمعها الدولة من جهد باقي العاملين الجاهدين ، و من ضمنهم المومسات ، فلماذا لا يرفض "السيد" بن الطاهرين المطهرين الأخذ مما اختلط بعرق أفخاذ المومسات؟

لا يوجد إنسان عنده أدنى قدر من الكرامة و المروءة يرضى بأن يماليء شريعة تفرق بين الناس على أساس النسب و القرابة لعشيرة انتهازية سكنت الحجاز قبل مئات السنين! و لئن قبل أؤلئك المنحدرون من بركات الجهاز التناسلي لبني هاشم بهذه الحضوة لأنها تغتصب أموال الناس و تلقيها في جيوبهم ، فعجبي ممن يصبُّ تعبه و شقاءه بيديه في جعبة السيد الهاشمي صاغراً راضياً مرضياً ؟ و ستبقى فضيحة صناديق السادة وغير السادة شاهدة على عنصرية و ازدواجية أؤلئك الذين يتبجحون بأحاديث ((لا فرق بين أعجمي و عربي إلا بالتقوى)) .

أقترح في الموسم القادم أن يتم تغيير العبارتين على صندوقي الزكاة لتصبح "صندوق أوساخ السادة" و "صندوق أوساخ غير السادة"

معالم التطرف و القساوة في سيرة ابراهيم

معالم التطرف و القساوة في سيرة ابراهيم 


شأن النبي ابراهيم يختلف عن شأن باقي الأنبياء الذين ذكرهم القرآن ، فهو حالة فريدة و شخصية نادرة ، من حيث كونها متطرفة في الأداء و في البلاء ، في الصغر و الكبر ، نلحظ ذلك من خلال المشاهد المختلفة من حياته كما وردت في الكتب السماوية و في القرآن تحديداً ، بدءاً من المواجهة مع قومه و انتهاءاً بمحاولة الشروع بذبح ولده ، مروراً بترك أهله في مكان مجدب بلا ماء . هذا الموضوع يقرأ مشاهد من سيرة ابراهيم من ناحية تحليلية مجردة خارج الهالة المقدسة التي تفرضها الآيديولوجية الدينية.

موضوع محنة ابراهيم يلقي الضوء على سيرة شخصية تجتمع فيها خصال الديانات التوحيدية الثلاث التي انبثقت منها و تسود العالم المتدين اليوم و تشكل عاملا ًمشتركاً في الإنتساب إلى عقيدته ، مع اختلافها في الشرائع و بعض الإعتقادات. و بالرغم من تناحر هذه الأديان مع بعضها و تسفيهها لبعضها البعض ، فإنها تتـفق جميعها على تقديس شخصية إبراهيم ، الذي يسميه بنو اسرائيل بـ " الأب الأول " و المسلمون بـ " أبو الأنبياء ".



الخصلة الأخرى التي تشترك فيها هذه الديانات الثلاث هي الدموية و القسوة الشديدة ضد المخالف في الراي و الإتجاه تحت مسمى العقيدة ، و هذا واضحاً من خلال التقصي التأريخي للفترات التي هيمنت بها هذه الأديان على الساحة و من خلال حملات الإبادة الدينية التي قادتها ضد شعوب المنطقة ، كما هي الحال في المجازر الرهيبة التي أرتكبها يوشع بن نون ضد الشعوب الكنعانية بأمر من الكتاب المقدس و التي لم يسلم منها حتى الأطفال ، و كما فعلت حملات الكنيسة الواسعة و مجازرها ضد "الوثنيين" بدءأً من القرن الرابع الميلادي و مروراً بحملات الإبادة ضد الساكسونيين الذين رفضوا الإنضمام للكنيسة و من ثم الحروب الصليبية التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حتى تفتتها بعد حرب الثلاثين عاماً الدموية. و لا يخفى على عاقل حملات التصفية أو التركيع المماثلة و غزوات التمدد و النهب التي شنتها الخلافة الإسلامية تحت واجهة الفتوحات الإسلامية.



تكاد تكون هذه العقلية القاسية صفة مميزة و طاغية للأديان الإبراهيمية الثلاث ، تسودها عقلية الشعب المختار أو المهيمن أو المفضل مع ملحقاتها من أمثال "خير أمة" أو "الطائفة الناجية" أو ألطائفة المنصورة" أو "المذهب الحق" و غيرها من المفردات التي تنفخ روح التعالي و العجرفة على بقية الناس و استصغارهم و التحقير من شأنهم.


في أي فترة عاش ابراهيم؟


كعادته في التركيز على الحدث دون الإسهاب في القضايا الجانبية ، لا يتطرق القرآن إلى تعيين الفترة التأريخية التي عاصرها ابراهيم ، لكننا نعرف من المصادر التأريخية أن ابراهيم عاصر زمن النمرود ، و يتفق المؤرخون المسلمون على أن الشخصية التي حاجت ابراهيم في ربه كما ذكر القرآن هي شخصية النمرود ، و ليس هذا نمرود نينوى ، بل هو نمرود " أور " الكلداني في مملكة بابل ، و المنحدر من سلاسة حام بن نوح ، و كانت مملكته تسمة أرض شنعار Shinar ، في حدود 2000 قبل الميلاد. 
أحد أهم الشخصيات التي كانت في حاشية النمرود كان تارح بن ناحور ، أحد "الأصلاب الشامخة !" ، المنحدر من سلالة سام بن نوح ، والذي كان له ثلاثة أبناء : ابراهيم و ناحور و هاران.
تقول الروايات الإسرائلية ، أن الكهنة اجتمعوا في بيت تارح ليلة ولادة ابراهيم و جعلوا ينظرون إلى السماء و نجومها ، فقرأوا فيها أن المولود الجديد سيصبح قائداً لأمة عظيمة ، و تسرب الخبر إلى النمرود ، الذي أمر تارح بأن يحضر وليده الجديد إلى القصر ليقتله. حاول تارح أن يثني الملك عن قراره فلم يفلح ، فلجأ إلى حيلة "شرعية" استبدل بها إبنه ابراهيم بإبن أحد العبيد الذين ولدوا في نفس اليوم الذي ولد فيه ابراهيم (أرجو أن لا يتصور أحد أن العبيد تعني أنهم بالضرورة سوود البشرة) . لم يفطن النمرود إلى الحيلة ، و أخذ الصبي البديل و قتله ظاناً أنه ابراهيم بن تارح. أما تارح "الشريف ذو الصلب الشامخ" فقام بأخفاء ابراهيم في كهف بعيدا ًعن أنظار الملك و عيونه ، و لبث ابراهيم في الكهف بضع سنين.
تقول الروايات الإسرائيلية ، أن ابراهيم بقي مخبئاً في الكهف عشر سنين ، اهتدى بها إلى الله عن طريق الإستقراء الكوني لحركة الشمس و القمر و الكواكب. قد تكون هذه اسرائيليات غير موثقة ، لكنها هنا تلتقي مع السرد القرآني في خطاب ابراهيم للكوكب و القمر و الشمس عندما رصد حركة كل منهم في السماء ، في الصباح و المساء ، حتى أيقن أنه لابد من مدبر لهذه الحركة و مهيمن على هذه الأجرام (( فلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين ، لما رأى الشمس بازغة قال:هذا ربي . هذا أكبر . فلما أفلت قال:يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا , وما أنا من المشركين )) الأنعام (76-79) . تحرك ابرهيم الصبي إلى بقايا بيت سام ونوح ، حيث "أطلعه الله على وحيه و علمه طريقة عبادته" على حد تعبير المصادر الإسرائيلية.


!ثلاثة مشاهد


ما يثير الإنتباه في سيرة أبراهيم هو ثلاثة مشاهد تكشف حدة التطرف و انطلاق العزيمة إلى درجة لم يجرؤ عليها أي نبي بعده ، و هو شيء قد يفسر التزمت و القساوة التي اتسمت بها الديانات التي انحدرت منه ، خصوصاً أنها تجعل منه قدوة و أسوة في صلابة الموقف اتجاه أتباع العبادات و الديانات الأخرى ، فكما قلنا ، لم يكتب التأريخ فترة حكمت بها هذه الديانات إلا و رافقتها المجازر الجماعية لأتباع الديانات الأخرى ، بالإضافة إلى قساوة التشريعات التي صدرت عنها ، و خصوصاً شريعة موسى التي كانت تعاقب بالرجم حتى عقوق الوالدين!


المشهد الأول : في معبد الأصنام


في صباه ، و يبدو أن النمرود قد نسي قصة الصبي الذي هدد ملكه ، يدخل ابراهيم في مواجهة حادة مع قومه لم يألفوها من قبل ((اف لكم ولما تعبدون من دون الله افلا تعقلون ؟؟)) و فيها تسفيه مباشر لعقولهم ، ثم يعمد إلى معبد قومه فيكسّر أصنامهم بفأسه ، و هذه جرأة هائلة و مجازفة كبيرة في مواجهة مجتمع قومه لم يفعلها نبي قبله ولا بعده. حتى أن النبي محمد لبث في مكة يصلي في الكعبة و حولها و هي تعج بأصنام القبائل و مع ذلك لم يجرؤ على أن يمسها بسوء. قد تعزى جرأة ابراهيم هذه إلى أنه كان في غمرة شبابه و اندفاع عواطف الفتيان.
بعد مجادلة مع النمرود و مع قومه ، ينتهي الأمر بأن يجد ابراهيم نفسه محمولاً كي يلقى في نار عظيمة جزاء فعلته ، و لكنه غير آبه لهذه المصير ، مستسلماً له بكل جوارحه بالرغم من صغر سنه ، و لكن - حسب السرد القرآني - تتدخل العناية الإلهية في اللحظة الأخيرة و ينجو من الحرق ، حيث تتحول النار إلى برد وسلام.
يبدو أن هذه المعجزة لم تؤثر في قومه أو تجعلهم يصدقون بدعوته ، و لكنها بالتأكيد تركت أثرا ًعظيماً على شخصية ابراهيم و جعلته أكثر استسلاماً لإشارات الوحي و خضوعاً لإيحاءات السماء ، كما سنراها لاحقاً.


المشهد الثاني : ترك الزوجة و الطفل في الصحراء


هاجر ابراهيم مع زوجه سارة من أرض شنعار إلى مصر ، و منها عاد إلى جنوب فلسطين و معه جاريه اسمها هاجر كان قد وهبها ملك مصر لسارة - التي كانت عقيما - و هي بدورها وهبتها لابراهيم ، فولدت له ابنه الأول اسماعيل.
لا يذكر القرآن السبب الذي حدا بإبراهيم لأن يحمل هاجر و ابنهما الوليد الجديد من فلسطين الشام و يقطع بهما الفلاة جنوباً ليتركهما في مكان أجدب لا ماء فيه و لا زرع ، لكن الروايات الإسلامية تقول أن سارة غارت من هاجر حينما حملت باسماعيل ، و أن هاجر خافت ففرت منها ، و اضطر ابراهيم لأن يحمل هاجر و اسماعيل بعيداً عنها ! روى الطبري عن سعيد بن جبير ، أنه حدث عن ابن عباس ، قال : " إن أول من سعى بين الصفا والمروة أم إسماعيل ، وإن أول ما أحدث نساء العرب جر الذيول أم إسماعيل ، قال : لما فرت من سارة ، أرخت من ذيلها لتعفي أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت ، فوضعهما ثم رجع ، فاتبعته ، فقالت : إلى أي شيء تكلنا؟ إلى طعام تكلنا؟ إلى شراب تكلنا؟ فجعل لا يرد عليها شيئا ، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا . قال : فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء ، أقبل على الوادي فدعا ، فقال (( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )) "
ربما يبدو الأمر طبيعياً للعقل الديني إذا تم تعليله بأنه من أمر الله ، لكن من ناحية إنسانية ، من هذا الذي يترك امرأته و ابنه الوليد في ذلك المكان الموحش حيث لا بشر فيه و لا شجر ، بلا ماء أو غذاء ، ثم يولي وجهه راجعاً ؟ و هب أنه أراد لأهله أن يسكنوا مكان البيت العتيق، فلم لم يسكن هو مع أسرته يَرُبَّهُم؟ هب أن سارة غارت ، فهل يستوجب هذا كل هذه المغامرة و تعريض عائلة للهلاك؟ إن قلبا ًاستطاع أن يفعل هذا بأهله لعلى قدر هائل من العزيمة و الشدة ، سواء كان الباعث غيرة زوجته الأولى ، أو وحياً من السماء ، و هو احتمال ضعيف لأننا لا نجد مبرراً لهذه المغامرة و المجازفة بحياة إمرأة و طفل!


 !المشهد الثالث: القربان البشري


هذا من أعجب و أصعب و أقسى المشاهد ، شروع ابراهيم بمحاولة ذبح ابنه و تقديمه كقربان .. لأنه رآى ذلك في رؤيا! و لكن يبدو أنه أخذ هذا من خلال مروره على الكنعانيين في فلسطين الذين كانوا يقدمون أبناهم قرابين للإله بعل !
و تعيد الذاكرة لإبراهيم محاولة قومه أن يقتلوه حرقاً بالرغم من أنه أثار هياجهم الديني ، و ها هو الآن يتهيأ لذبح ابنه ، المطيع ، الذي انتظره طويلاً ، بدون ذنب اقترفه ، فمن يقوى على هذا الفعل ؟




هنا موقف إبراهيم من ولده مغاير لموقف نوح من ولده ، بالرغم من أن ابن نوح كان من العاصين له و النافرين منه ،
 لكن مع ذلك رق له قلب نوح كأي أب يرق لولده ، و دعاه ليركب معه فأبى ، و عندما حال بينهما الموج وقع متضرعاً لربه ((يا رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق )) ، لكننا لم نر ابراهيم يراجع ربه في أمر ذبح ولده ، أو يطلب بينة واقعية ليطمئن قلبه ، تماماً كما طلبها من قبل ليرى كيف يحيي ربه الموتى ! بل استسلم لهاجس الرؤيا و عزم على أقسى عمل يمكن أن يؤديه إنسان.

و بغض النظر عن النهاية السعيدة لهذا "البلاء المبين" فإننا هنا نلمس أنانية ابراهيم المطلقة في سبيل ارضاء معبوده ، و لو على حساب حياة صبي بريء ، ناهيك عن أن يكون ابنه البكر الذي ظل ينتظره لعقود ، فتصرف و كأنه يملك حياة هذا الإنسان و له أن يضحي بها استجابة لرؤيا! لم يكن ابراهيم يدرك أو يتوقع بأن السماء ستتدخل في آخر لحظة لتغيير الخطة و إنقاذ الصبي من الذبح و كأن الأمر كله كان مزحة ! و الملحظ الغريب ، أن المشهد أغفل موقف أم اسماعيل هاجر و لا نعرف إن كان ابراهيم قد استشارها في ذبح ولدها و كأنها ليس لها نصيب فيه و هي التي الذي بذلت من أجله ما بذلت.

الملحظ الغريب الآخر هنا هو أن الأمر بالذبح لم يحدث بصورة مباشرة عن طريق الوحي كما حدث الفداء في اللحظات الحاسمة الأخيرة و بنداء جبريل و هو يجر كبش الفداء من قرنيه! فإذا كانت هذه أضغاث أحلام أو تخيلات تخيلها ابراهيم فلماذا تُرِكَ و اسماعيل أن يستغرقا النقاش و الإعداد للقربنة كل هذه الفترة؟ و ماذا عساها تترك تلك التجربة من أثر نفسي على الصبي و هو يرى سكين والده تقترب من لحم رقبته؟ 

المثير في الموضوع ، أننا نمر على هذه الحادثة بشيء من الرضا و الإعجاب بتفاني ابراهيم و استسلام اسماعيل من دون تدبر لخطورة التجربة و قساوة البلاء. إننا لا نقوى على أن نطيل النظر في مشهد الأب و هو يجر بابنه الصبي و في يده سكينة ليذبحه بها! ماذا يفعل أحدنا لو رأى شيخاً يفعل هذا بابنه؟ هل سنقف على جانب الطريق نصفق له و نشجعه و نبارك خطواته على أن يمضي قدماً لينحر رقبة هذا الصبي المسكين لمجرد أنه رأى رؤيا تأمره بذلك ، أم أننا كنا سنهجم على ذلك الشيخ لاستنقاذ الطفل من سكينه؟ ما فرقنا نحن عن تلك الشعوب التي نسميها بدائية و هي تقدم القرابين البشرية لآلهتها وسط صيحات و رقصات المؤمنين؟ 
لا يمكن بناء أي موقف أخلاقي على فتنة ابراهيم هذه ، و لا نستطيع تحسس العبرة ، و لا يمكن أن نعجب بهذا الموقف ، لكن العقل المتدين يؤمن بقداسة الحدث أمام النص ، و لأن الجانب الأخلاقي و الإنساني يقع في غيبوبة عن الوعي أمام النص المقدس فإنه لن يرى حراجة في ذلك. أننا إذا استبدلنا اسم ابراهيم باسم أي شخصية أخرى من الصين القديمة مثلاً و قدمناه تماماً كما قدمنا ابراهيم ، فأن ردة الفعل ستكون مختلفة ، عندها ستختفي هالة القداسة و يغيب النص ، فنرى الأمور على حقيقتها و سنحكم على هذه الشخصية كما لو كانت من الشخصيات الحاضرة اليوم ، و لن نتردد في وصفها بأنها شخصية قاسية و بدائية تؤمن بالقرابين البشرية لإرضاء الآلهة ! انظر كيف تلعب الألقاب و المفاهيم المسبقة فعلها في العقل المتدين فتحيله إلى آلة صماء لا روح فيها و لا نَفَس!
و الأهم من هذا كله ، هل لنا أن نسأل ماهي الغاية التي كانت تستوجب هذا الإمتحان الرهيب لنبي ثبت ولاؤه و إخلاصه و تسليمه و تضحيته بنفسه من أجل ربه و هو قد تجاوز المائة من عمره؟ هذا هو الموضع الوحيد الذي وصفه القرآن بأنه ((البلاء المبين)) ، و هذه هي محنة ابراهيم ..!


ماذا يعني هذا الكلام؟ 

من وجهة نظر الدين ، فإن هذا يعد تجديفا و انتهاكاً للقداسة و خروجاً عن الملة يستحق العقوبة ، لأن أول شيء يفكر فيه المتدينون هو العقوبة و البطش! أما من وجهة النظر المجردة من هيبة النص ، فإنها تحليل لشخصية تأريخية عاشت ثقافة و معتقدات أخلاقية قديمة كانت مقبولة لديهم ، لكننا نرفضها الآن و لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتأسى بها أن تكون لنا مثالاً يقتدى.
إننا في الوقت الحاظر لا يمكننا أن نقبل لأنفسنا أو لغيرنا أن نهدم الآثار بحجة أنها أصنام (كما فعلت طالبان في باميان و داعش في الموصل و تدمر) أو أن نترك امرأة و رضيعها في وسط وادٍ موحشٍ بلا ماء و لا غذاء ، و لا أن نجر بصبي لنذبحه كقربان للآلهة ، بمعنى آخر أننا بصورة عملية لا يمكننا أن نرضى الآن بما فعله ابراهيم فيما مضى من سالف الأزمان ، لأن المعايير الأخلاقية و الإنسانية قد تطورت و ووصلت إلى مراحل أرقى بكثير مما كان سائداً في عهد ابراهيم و من بعده ، وهذا يعني أن قيمنا الإنسانية و الأخلاقية – و بدون وعي منا – لا تستند إلى النصوص و المفاهيم المقدسة التي نحب أن نعتقد و بصورة عمياء أنها منبع الأخلاق ، و هي قضية يكذبها الواقع – و الواقع سيد الأدلة – الذي يثبت أن القيم الإنسانية و الأخلاقية تضمحل حيثما يحل النص المقدس ، و أن المتدينون هم أكثر الناس تزمتاً و احتقاراً لحقوق الإنسان و قمعاً لحريته ، رأينا هذا على مدار التأريخ في الأمم و الدول الدينية التي سادت باسم الدين ثم بادت ، و نراه اليوم في كل المجتمعات التي تضع قداسة النص أمام عقل الإنسان و حريته و تريد ادارة عجلة الحياة .. و لكن إلى الوراء ... حيث القرون الأولى !

عزانا و عزاهم !



عزانا و عزاهم !

كانت لنا جارة من اسكتلندا ، طاعنة في السن ، جمة الأدب ، كثيرة التبسم و التحية ، دؤوبة الحركة رغم كبر سنها ، و كان يسكن معها ابنها الأكبر "روبرت" ... يرعاها.
في احد الأيام ، طرق "روب" بابنا ليخبرنا بأنه أمه قد فارقت الحياة بالأمس. حزنت للخبر ، و تعجبت أني لم أسمع صراخ و نواح و عويل يخيف الجيران و يرعب الأطفال ، رغم أن حائطهم ملاصقاً لحائطنا ، لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.
احترت كيف أعزيه ، هل أبسمل ، أم أحوقل ، أم أسترجع؟ لا يفهم جاري معنى هذا الكلام .. هل أقول له "عظم الله أجركم؟" May God multiply your rewards" ؟ سيسألني " أي أجر؟" ،.. هل أقول له "البقية بحياتك ؟" "The remaining is in your life" سيتعجب عن أي بقية أتحدث ؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا. قلت له ما يقوله غيري : أنا آسف ، فتقبلها الرجل. سألته عن مكان الفاتحة ، أقصد العزاء ؟ قال لي في اليوم الفلاني و في المكان الفلاني جوار المقبرة الفلانية.

في يوم العزاء ، تهيأنا لأداء الواجب .. فاتشحت أنا و زوجتي بالسواد ، و توجهنا نبحث عن المكان. عندما اقتربنا من المكان أرادت زوجتي التأكد عن طريق البحث في الخارطة ، قلت لها : لا داعي ، أكيد ستدلنا مكبرات الصوت و هي ترتل آيات من الإنجيل الحكيم بصوت المقريء عبد البولص الفاتيكاني. لكن المكان كان هادئاً إلا من صوت العصافير. فتعجبت أن لا أجد صياحاً لمكبرات الصوت و هي تجوب عنان السماء و تقض مضاجع الناس ! لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.
قلت لأن فاتتنا المكبرات فلن تفوتنا خيمة العزاء أو سرادقه ، فبقينا نطوف في الشوارع علّنا نجد الخيمة أو نشم رائحة القهوة المميزة أو الهبيط المغلي، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. فتعجبت كيف سوف يجمعون كل المعزين من الجيران و الأقارب و فيهم من يأت من باقي المحافظات ، أم كيف سيعلم أهل المنطقة بوجود العزاء إذا لم تكن هناك خيمة تأوي الجميع و تسد الطريق؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.

لا مكبرات صوت و لا خيمة عزاء ، فلنبحث عن المقبرة إذاً! فصرنا ندور في شوارع المنطقة نبحث عن مقبرة بل جدوى ، فلا نجد غير متنزه وحيد ، لكن المكان هو نفس المكان الموصوف فأين المقبرة؟ فلما توقفنا للسؤال قيل لنا : هذه المقبرة ، و اشاروا إلى المتنزه الذي كنا ندور حوله ! فتعجبت ! هل هذه مقبرة؟ لأننا كنا نبحث عن مقبرة قبورها شاهقة ، و سراديبها غائرة ، لا زرع فيها و لا شجر ، و لا ورود فيها و لا ثمر ، يحيط بها التراب و الغبَر ، و تملؤها الأوساخ و فضلات البشر، منظرها يخلع القلوب ، و يملؤها وحشة لا تبقي طمأنينة و لا تذر! لكني تذكرت أن هذه ليست مقابرنا.

دخلنا المتنزه ، عفواً أقصد المقبرة ، و بدأنا البحث عن قاعة العزاء فيها ، سألتني زوجتي : كيف سنعرف مكان العزاء؟ قلت لها بسيطة: أكيد ستأتي نساء متوزرات متأبطات ، يملأنها صراخاً و عويلاً و ولولة فما علينا إلا اتباعهن. طبعاً لم يحدث من هذا شيء ، فما وجدنا غير قاعة بسيطة يسودها الهدوء و تعلوها السكينة. فتعجبت ! و قلت في نفسي : أين النواح؟ أين العويل؟ أين الصراخ؟ أين البكاء ؟ أين النحيب؟ ما هذا؟ موسيقى كلاسيكية هادئة؟ أهذا عزاء المرحومة؟ فتذكرت أن هذا ليس عزانا.
دخلنا قاعة العرس ، عفوا ًأقصد العزاء ، و هممت أن أقول "رحم الله والديه من قرأ سورة الفاتحة" ، لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا ، و يا خجلتاه ، كنا الوحيدين الذين يلبسون السواد ، فقد جمعت القاعة أبناء المرحومة بأرقى ثيابهم ، مع أطفالهم ، و كان الهدوء يعم الجميع ، حيث كانت المرحومة مسجاة في صندوق أنيق و هي تلبس أزهى ثيابها ، تحيط بها أكاليل الورود ، و في جنبها منصة يتقدم فيها تباعاً أقرباؤها كلُ يحكي قبساً من أخبارها و ذكرياتها معهم ، و هم يعرضون صورها في مختلف مراحل حياتها ، و ساد الجميع شعور بالراحة و الهدوء و هم يستمعون لسجل حياتها على أنغام الموسيقى الهائدة.

تعجبت ! و قلت في نفسي : أين السوالف و الأحاديث الودية الصاخبة على خلفية تلاوة القرآن لعبد الباسط ؟ أين السكائر و القهوة و ثواب حلاوة التمر ؟ ومتى يقدمون الغداء الدسم و العشاء اللذيذ و الفطور الكونتننتال للأخوة المعزين مجاناً و لثلاثة أيام متتاليات ثواباً لروح المرحومة؟ ثم ما هذا التخلف و برودة الأعصاب؟ أين قبلات المعزين و بكائهم المصطنع و نحيبهم يـ "يا يابه يا بويه شسويتي بينا أم روب" ؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.

انفض العزاء بعد أقل من ساعتين ، حيث ألقى الجميع عليها النظرة الأخيرة و هي بأبهى صورة ، و انسحب الصندوق الصقيل بهدوء ميكانيكي إلى قبو تحت قاعة العزاء حيث ستوارى مثواها الأخير ، و انصرف الجميع لبيوتهم. فسادني حزن عميق ، فلم يبق أحد ليلقن "أم روب " المحفوظة إياها التي ستواجه بها سطوة الثنائي المرعب "منكر و نكير" ، أو يذكرها بأن تبقى على العهد الذي تركتهم عليه من شهادة أن لا إله إلا الله ... و شهادة أن محمداً أو جيزس رسول الله ... و شهادة أن علياً و أولادة المعصومين حجج الله ... الخ من القائمة الطويلة إياها! أو يلقي في صندوقها صليباً من التراب المضغوط أو مسبحة تستأنس بها وقت الفراغ أو سعفة تكنس بها بهو القبر! 

لم يحصل شيء من هذا ، و لم يتبعها أحد من المعزين ، فخاب ظني ، لأني كنت قد هيأت كتفي لملحمة حمل التابوت - أقصد الصندوق - على الأكتاف و الطوف به خارج القاعة مع صراخ "يا أمنا العذراء" ، و خفضه و رفعه ثلاث مرات (ربما للتأكد من وفاة المرحومة بعد هذه الخضات الثلاث) ، و تصورت أننا سنضع التابوت ، عفواً أقصد الصندوق الصقيل ، فوق إحدى السيارات ونأخذها في رحلة خارج المدينة ، إلى المكان الذي تُضرب إليه آباط الإبل ، كي تزور مرقد أحد القديسين المعصومين الزيارة الأخيرة ، كي تستبريء الذمة و تطلب الرحمة و تجدد العهد ! فازداد غمي لما فات العزيزة المرحومة "أم روب" من الخير الكثير الكثير !
لكني تذكرت .... أن هذا ليس عزانا !

هل أتلك حديث ابن عباس ؟

هل أتاك حديث ابن عبّاس ؟



سبحان الله؟ أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب ؟ أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما ؟ أو ما يعظم عليك وعندك .. أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى وألارامل والمجاهدين ؟                      

من رسالة علي بن أبي طالب إلى أحد عمّاله!


من تراه هذا الذي ينكح النساء بأموال اليتامى و الأرامل و المساكين؟

ربما تكون الرسالة أعلاه متوقعة من شخصية كعلي بن أبي طالب لأحد عمّاله حينما بلغه هروبه ببيت مال المسلمين ، و هي كما سيأتيك من أنباءها رسالة تحمل خيبةً و حسرةٍ و ألماً من غدرةٍ ، و لكنك ربما ستصاب بالذهول و الصدمة إذا علمت أن المعني بهذه الرسالة هو عبد الله بن عباس .. "حبر الأمة و بحرها" و "ترجمان القرآن" و أكثر من نقلت عنه الأحاديث ، الذي كان عاملاً لعلي بن أبي طالب على البصرة قبل أن يستولي على بيت المال فيها و يهرب به إلى مكة.
إن هذا حديث لن تسمعه من أهل المنابر و لن يحدثك به خطيب أو شيخ ، و لن تجده صريحاً في المجلدات الأنيقة أو الكتيبات و الأحاديث التي تحدثك عن "خير القرون" أو "السلف الصالح" ، لكنه حديث وثقه التأريخ و ثبتته المراجع رغم محاولات التتم و الإعتذار عن صاحبه. و قبل أن آتي إلى تفاصيل الحادثة - و هي موثقة في مصادر التأريخ المعتمدة - ربما يسأل سائل و يقول : ما هو الغرض من طرح هذه القضية و نبش تأريخ إبن عباس ؟ و أقول ليس الغرض من هذه المقالة تناول شخصية ابن عباس ، فهو كأي شخص عادي وجد نفسه ضعيفاً أمام فرصة نهب المال العام ، لكن الغرض هو ابراز دور التأريخ و ثقافة السلطة المستبدة في صناعة الأوهام و نسج الأساطير حول الأشخاص و تأثير هؤلاء على المسار الثقافي ، خصوصاً عندما تتصدر هذه الشخصيات ملامح أمة يراد لنا أن نقتدي بها رغماً عنا و عن التأريخ الذي لوثت صفحاته بأعمالها ، و لأننا أمة لا نزال نتنفس هواء الماضي و نعيش أحداثه و ملامحه و لا ننتمي بأي صورة من الصور لعالم اليوم ، و ليس للغد عندنا نصيب.

ربما سترى في هذه أحداثاً لم تخطر لك على بال ، و لكن رويداً ، فقبل أن تستذكر أحاديثاً مثل "اللهم فقه في الدين و علمه التأويل" تذكر أن بني العباس ملكوا فقه الأمة و صنعوا أحاديثها فزينوا لمجدهم و اشتروا لذكرهم و ألبسوا جدهم مسوح الزهد و العلم ، و الأقربون أولى بالمعروف !

كان ابن عباس ابن عم الخليفة علي بن أبي طالب و ذراعه الأيمن، و صاحب إحدى راياته في مواقعه كلها بدءاً من البصرة و انتهاءاً بصفين مرواً بالنهروان. ، فلا يشك في ولائه أحد ، فهو الخطيب المتكلم و السياسي الحاذق ، و كان موضع ثقة علي بن أبي طالب في مواقفه كلها ، حتى ضربت فتنة المال ضربتها في قلبه.

فما قصة ابن عباس و بيت المال ؟
بعد فشل التحكيم و استفحال تمرد الخوارج ، ضعفت جبهة علي و قويت شوكة معاوية ، و بدأت الأمور تسير بالمسلمين نحو الهاوية ، فعاد ابن عباس إلى البصرة بعد أن ولاه عليٌّ عملها ، و البصرة هي أعظم الأمصار و أجلها خطراً و أغناها مالاً لأنها مركز أرض السواد و إليها يجبى الخراج بالإضافة إلى أن فيها غلة العراق ، و يبدو أن ابن عباس قد أطلق يده في مالها ينفق فيه لنفسه كما يشاء. فشكاه أبو الأسود الدؤلي و كتب كتاباً إلى علي بن أبي طالب ، جاء فيه: "إن عاملك و ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك"


ففزع عليّ من هذا الخبر ، و تمنى أن أن يكون خطاً و سوء فهم ، و لم يكن أمامه إلا أن يرسل إلى أبن عباس يستفسر منه ، فبعث إليه خطاباً مختصرا جاء فيه:
" أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين: بلغني أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس"

و هنا يطلب منه الخليفة أن يرفع اليه كشف حسابه و ما أنفق ، فيأتيه الجواب مبهماً من ابن عباس: 

"أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فلا تصدق على الأظناء، رحمك الله، والسلام"


و هذا رد لا يغني من جوع ، بل يزيد الشكوك فيه ، فعلي قد طلب كشف حساب بيت المال فلم يظفر من ابن عباس إلا بنفي التهمة ، فعاد عليه الكرة، موضحاً ما يطلبه و مؤكداً عليه، محاولا استثارة النخوة الدينية لديه ، ولنقرأ خطاب علي:
"أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه، فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام"

فلم يعد الأمر اتهاماً ينفيه ابن عباس ، بل طلبا ًواضحاً لكشف الحساب ، يورد فيه موارد الخراج و مواضع الإنفاق. و هنا موقف لابد أن نقف عنده :
ترى مالذي كان سيفعله شخص آخر غير علي إبن أبي طالب في هذا الموقف عندما تأتيه وشاية عن ابن عمه و صاحب رايته و موضع أمانته و عامله و من وقف بجانبه في حروبه كلها؟ ماذا يعني أن يأخذ شيئاً من بيت المال يتقوى به ، , فهو من شيعته و أنصاره على عدوه و هو بحاجته ليشد عضده به؟ أي شخص آخر كان سيغض الطرف عن تجاوزات ابن عباس ، و وربما كان ليعاقب الرسول و المبلغ و من يجتريء على أقرباء الخليفة و مواليه ! فالأمة في حالة حرب ، و للحرب أحكامها و تسهيلاتها ، و من حق الإمام و جند الإمام بسط ايديهم ، فهذا حقهم ؟

و نعود لإبن عباس ، فقد تلقى رسالة الخليفة ، و بدل أن يتلافى الموقف و يدفع عن نفسه التهمة بدليل يشفي الغليل ، نراه في رده الآتي يزداد خصومة و اصراراً و استخفافاً بقدر ابن عمه بدلاً أن يواسيه ، فيرد على التهمة بالتهمة ، فعلي يتهمه باغتصاب المال و هو يتهم علياً بأنه سفك الدماء من أجل الإمارة و الملك ، و هكذا جريمة بجريمة ، فجريمة سفك الدماء أعظم عند الله من جريمة اغتصاب المال التي لا ينفيها أو يعتذر عنها ، و إليك ما قاله أبن عباس لعليّ : 

"أما بعد، فقد فهمت تعظميك على مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد، والله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببت"


و صلت رسالة ابن عباس هذه لعلي أبن أبي طالب و هو بالكوفة ، فضرب كفاً بكف ، و قال بحسرة المغدور "وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء؟" فهو كان معه في مواقعه كلها.

لا تحزن يا أبا الحسن و لا تضرب كفاً بكف ، فسيأتي من بعدك أقوامٌ أخسّاء ضِحالٌ لئام ، لو رأيت صنيعهم بأموال الناس و أكلهم السحت الحرام باسمك لضربت بكفيك على رأسك حتى يصدع ، و لهانت عليك مصيبتك بابن عباس!

و لكن إبن عباس لم يكتفي بهذه الرسالة اللئيمة ، و ليته اكتفى ، لأننا ربما كنا سنلتمس له عذراً و لو كان واهيا ، و لبررناها بغضبه من اتهام ظالم و جسيم أطلق منه نوازع الغضب و انفعالات الثورة ، فكتب ما كتب ، لكنه فعل بعد كتابة هذه الخطاب مالم يخطر لعليّ على بال ، و ما لا يخطر لنا نحن على بال !
لقد جمع كل ما تبقى من أموال في بيت مال البصرة ، و قدره نحو ستة ملايين درهم ، و دعا إليه من كان في البصرة من أخواله من بنى هلال، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا بنى هلال قليلاً، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضاً عن سفك الدماء، ومضى ابن عباس بالمال، آمناً، محروساً، قريراً، هانئاً، حتى بلغ البيت الحرام في مكة، فاستأمن به، وأوسع على نفسه، واشترى ثلاثة جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار..!
صدمة هائلة ، و طعنة نجلاء ، لا لعلي فقط ، بل لنا جميعاً ، أيعقل هذا من ابن عباس و نحن الذين قضينا دهراً نقرأ عن فقه و ورعه و علمه و زهده؟ أم أنها الدعاية العباسية اتبييض صفحات جدهم الأول؟

و هنا يسجل التأريخ هذه الحادثة و يوثقها و يجليها للناظر في الرسالة التي أرسلها علي ابن أبي طالب إلى ابن عباس ، بعد أن إستقر في مكة ، هانئاً بين جواريه ، قانعاً بأموال الناس ، و هذه الرسالة موجودة في نهج البلاغة ج 1 ص 378، و في العقد الفريد لابن عبد ربه 2/243 ، و موجودة في عيون الأخبار 1/57 ، و في الأوائل للعسكري و نثر الدر للآبي ، و أنساب الأشراف ، و البصائر والذخائر ، و البداية والنهاية لابن كثير ، و المجالسة وجواهر العلم للدينوري )
تأمل معي رسالة علي بن أبي طالب لابن عباس ، و هي من آخر ما كان بينهما:


"أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي ، وجعلتك شعاري وبطانتي ، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي وأداء الأمانة إلي ، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلِب ، والعدو قد حَرِب ، وأمانة الناس قد خزيت ، وهذه الأمة قد فنكت وشغرت ، قلبت لابن عمك ظهر المجن ، ففارقته مع المفارقين ، وخذلته مع الخاذلين ، وخنته مع الخائنين ، فلا ابن عمك آسيت ، ولا الأمانة أديت ! وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك ؟ وكأنك لم تكن على بينة من ربك؟ وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم؟ وتنوي غرتهم عن فيئهم؟ فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة ، أسرعت الكرة ، وعاجلت الوثبة ، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة ، فحملته إلى الحجاز ، رحيب الصدر بحمله ، غير متأثم من أخذه ، كأنك - لا أبا لغيرك - حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك ؟ فسبحان الله!! أما تؤمن بالمعاد ؟ أوما تخاف نقاش الحساب ؟ أيها المعدود كان عندنا من أولي الألباب ! كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما وتبتاع الإماء وتنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد؟ فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ! ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار! و والله لو أن الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ، ولا ظفرا مني بإرادة ، حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل عن مظلمتهما ! وأقسم بالله رب العالمين .. ما يسرني أن ما أخذته من أموالهم حلال لي أتركه ميراثا لمن بعدي ! فضح رويدا فكأنك قد بلغت المدى ! ودفنت تحت الثرى ! وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة ويتمنى المضيع فيه الرجعة ! ولات حين مناص!"

خطاب بليغ يقطر دماً ، فيه لوعة المغدور و ألم المفجوع من هذه الضربة التي أتته من حيث لم يحتسب ، و لو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع و تاب ، و رجع عن فعله و أناب ، لكنه يتمادى فيرد مستخفاً ، و يبعث إليه برد جامعٍ قاطعاَ على على بن أبى طالب كل أمل فى إصلاحه والعودة بمال المسلمين ، جاء فيه .
"أما بعد : بلغنى كتابك تعظم على إصابة المال الذى اصبته من مال البصره ، ولعمرى إن حقى فى بيت المال لأعظم مما أخذت .. ولئن لم تدعنى من اساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به ".

فالتهمة حقيقة إذن؟ فهاهوذا يبرر فعلته بأن ما نهبه من بيت مال المسلمين والذى قدر بحوالى ستة ملايين درهم هو أقل من حقه من أموال المسلمين! عن أي حق يتحدث ابن عباس؟ و بأي حق استباح هذا المال؟ و هل لابن عباس حق في مال المسلمين غير للذي غيره فيه؟ مات على بن أبى طالب بعد ذلك بفترة قصيره ولم يتمكن من إبن عباس ، مات و كلمات أبن عباس تتردد في مسامعه:
"لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به". !
وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبد الله بن عباس، وأصبحنا نحن في حيص بيص كما يقولون، نضرب كفا بكف، ونتساءل في مرارة، هل جائنا ديننا من هؤلاء؟

لقد ذكر خبر سرقة بن عباس لاموال البصرة في كتاب الكامل لابن الأثير ج3 ص 386. وتاريخ الطبري ج4 ص 108، وتذكرة الخواص ص 107 ، وفي أنساب الأشراف، ج1 ص 405.
و لها شواهد كثيرة في ثنايا الأخبار ، فابن عباس كان له أخ يدعى عبيد الله ابن عباس و كان عاملا ًلعلي على اليمن ، هجم عليهم جيش لمعاوية فتركها و هرب ، ثم عينه الحسن بن علي على مقدمة الجيش لقتال معاوية ، فترك الجيش و لحق بمعاوية بن أبي سفيان ، فقام قيس بن سعد بن عبادة (صاحب علي و أخلص أصحابه) ، فخطب في الجند حينئذٍ مشيراً إلى عبيد الله بن عباس (أخو عبد الله بن عباس) ، وقال:
«إن هذا، وأباه، وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط: إن أباه عم النبي، خرج يقاتله ببدر؛ فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري؛ فأتى به رسول الله، فأخذ فداءه وقسمه بين المسلمين، وان أخاه ولاه علي أمير المؤمنين على البصرة؛ فسرق مال الله، ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال» مقاتل الطالبيين ص 65.

كما أن عبد الله بن الزبير قد عرّض بابن عباس، وسرقته لبيت مال البصرة؛ فقال بحيث يسمعه ابن عباس:
«.. وأن ههنا رجلاً قد أعمى الله قلبه، كما أعمى بصيرته، يزعم: إن متعة النساء حلال من الله ورسوله، ويفتي في القملة والنملة؛ وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون النوى"

توفي النبي و عمر ابن عباس 10 أو 12 عاماً على قل تقدير ، فمن أين جاء بهذا الكم الهائل من الأحاديث ؟ لكن السؤال الذي نطرحه ، كيف أفلت أبن عباس من مشرط الجرح و التعديل مع كل هذه الروايات و الإتهامات و الرسائل الغليظة التي تتحدث عن سرقته لبيت مال المسلمين ؟ ألم يحدثوننا عن شدة تعصب الرواة و دقة منهجيتهم و خصوصاً البخاري في انتقاء الأحاديث الصحيحة و عدم تساهلهم فيها ، حتى أنهم ردوا حديث من يكذب على دابته ! ألا تكفي هذه التهمة لتلقي بظلال الريب على صحة روايات و أحاديث و فتاوى ابن عباس ؟

أفلت إبن عباس من مشرط الجرح و التعديل عند أقوام لأنه ينتمي إلى طبقة "الصحابة" ، و "الصحبة" حسنة لا تضر معها سيئة! و لو طعنوا بمصداقية ابن عباس فستسقط أعمدة المذهب و سيسقط معها 1700 حديثاً "صحيحاً" !

وأفلت عباس من لعنات أقوام آخرين لأنه ينتمي عملياً إلى صنف "الموالين" ، و ابن عباس يحمل كل صفات "الموالين" ، و "الولاية" حسنة لا تضر معها أي سيئة ! و لو ردّوا أحاديث ابن عباس فستهوي معه روايات من أدبيات المذهب كالخطبة "الشقشقية" و "رزية يوم الخميس"!

كيف أصبح ابن عباس "حبر الأمة و بحرها" و "ترجمان القرآن" ؟ تعرف الجواب حينما تعلم أن أحفاده ملكوا الدنيا و صنعوا الفقه و الأحاديث التي صاغت فكر و تراث هذه الأمة ، فخلعوا على جدهم خلع الألقاب و المآثر ليغسلوا صفحته مما أعتراها ، فأختاروا له ألقاب كهنة بني اسرائيل من الأحبار ، و فاتهم أن القرآن لم يذكر الأحبار و الرهبان إلا بالذم .. و أكبر ذمهم أنهم يأكلون أموال الناس بالباطل (( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل )) التوبة 34

فانطبق الوصف على الموصوف !